تصبحُ الأنثروبولوجيا ممكنة بناء على تجربة ثلاثية: تجربة التعددية، وتجربة المغايرة وتجربة الهوية” مارك أوجى.
(1)
ليس من الطبيعي أن تستمر أمة تريد أن تحسن من حالها ما يربو على ست عقود بنفس الوتيرة ونفس الطريقة على ما فيها من إخفاقات ونتائج باعتراف الكل بسلبياتها، ثم إن للدولة متطلبات وخطوات لا تستقيم الواحدة منهما إلا عبرها، وليس من المستساغ أن نمضي كل هذا الزمن نُحكّم فينا العواطف والإملاءات المجافية لأي منطق عقلي، ثم إنه لا يمكننا التركيز على فساد المجتمع وعدم نضج تجربته السياسية والوطنية – رغم اعترافنا بذلك- دون أن نحمل السلطة كبناء متعالي عن أي شخص وكمؤسسة تستدمج عدة قطاعات المسؤولية الأولى، فالتغير إذا جاء من الأعلى يكون أكثر عقلانية وأقلّ كلفة، عكس إن كان مصدره الأسفل، على ما يختلط في مزاج ذلك الأسفل من عواطف لا تبصر إلا حرقتها ومشاعر ملتهبة لمتطلبات غير مكتملة الأركان.
يعتبر فوكو أن “الصراحة” أولى لبنات السلطة الناجحة أو الحكم الناجح، وأكثرها فاعلية وكسرا للهوة بين الحاكم والمحكوم، وإذا كان فوكو تأثر بقراءات كانط الفلسفية حول التنوير والثورة، وربطهما بالقصور الشخصي الذي يفرض على أشخاص معينين انتخاب آخرين لا شعوريا وتفويضهم بالقيادة والحكم، تحقيقا لشعور النقص في التفكير والتحرر، فإن مرحلة المجتمع الذي يخلق سلطته وحكمه بذاته لا تزال مرحلة بعيدة وغير واردة القول في سياق كسياقنا، لعبت فيه النخب على تجيش النعرات والعصبيات المجافية للدولة، حتى أصبح الجميع يسعى للسلطة لصالحه هو ولصالح جماعته ضمن دائرة ضيقة جدا.
من هنا كانت مسألة توطين العلوم الاجتماعية التي تنتج فكر الدولة وتجسيده كواقع أمر ضروري لمجابهة واقع معقد كواقعنا ومضطرب جدا.
(2)
ولعل من نافلة القول أو التذكير أن الأنثروبولوجيا المهملة محليا إهمال الكثير من الأمور الضرورية هي الأساس المعرفي الصرف التي بنت عليه الدول المعاصرة تجربة احتكاكها وتغيرها للعالم الثالث، والذي كان يسمى وقتها عالم ما وراء البحار، وهي تجربة لا تدخل في صميم ثلاثي أوجى الذي جذر لها معاصرا محاولا كسر غربتها بعد نجاح احكتاك العالم المعاصر بالعالم غير المعاصر على ما في تلك التوصيفات من شُنحات قد تقبلُ وقد تفرض حسب سياقات انتاجها وممكنات قبولها الموضوعية.
ثم الأزمة إن القديمة باتت تتجدد في أثواب أخرى جديدة ومستجدة في ذات الوقت، تماما كما طرحت مسألة انتماء الأنثروبولوجيا نفسها للعوالم أو الدول الناشئة بعد استقلالها وانقضاء فترة الاستعمار، يمكن أن نطرح مسألة الهوية داخل سياقات تأسيس الدولة الوطنية المعاصرة وداخل أيضا طبيعة تسيرها وتفكيرها كفكرة وكتوجه له خصوصية التعالي والتمثيل المجتمعي، ولو حكمنا مسبقا باعتبار “فوكوياما” الذي قال أن الدولة المعاصرة ظلت غريبة في بناءاتها ومؤسساتها على العالم الثالث بأجمعه ولم تنجح فيه، وهو اعتبار واقعي نوعا ما، فإن المسألة الأساسية التي يجب أن تناقش في ظل هذا الاعتبار هو مسألة السلطة وليست الدولة الغير متحققة في بناءاتها الموضوعية، يجب أن نناقش السلطة في خلقها للتعددية وفي تعاملها مع المغاير وإن بطريقة مختلفة عن التي عنا أوجى، وفي تثبيتها للهوية وتمثيلها للمجتمع.
وعلى الرغم أن مفهوم المغايرة الذي دعا أوجى لتحقيقه خلال نظرة الأنثربوبوجيين لموضوعاتهم المعاصرة كانت من أجل إحْلاله كمفهوم محلّ ” الغرائبية” التي سيطرت على الفكر الأنثروبولوجي ردحا من الزمن، من أجل توطينها في المعاصرة كتوجه وكتخصص ضروري لمعرفة توجهات الشعوب وعاداتهم، ورغم أن الأمم العاقلة تعتبر ذلك أفضل وسيلة وأحسنها لبناء استراتيجيات حكومية متصالحة لعمقها الاجتماعي، إلا أن الموضوع يستوجب فينا أولا أن نضع السلطة كبناء لا كمفهوم تحت المحك من أجل إصلاحها أو مصالحتها لعمقها الاجتماعي الذي تسير والتي من المفترض أنها منه منبثقة.
(3)
يتخلل ذلك الإجراء أو التوطين عمليات فحص الهوية داخل سيقات البناء والتثبيت السلطوي، ثم التعددية كنوع من استراد الصراعات الجمعوية والفئوية والقبائلية والشرائحية حتى من أجل التقرب من السلطة أو المشاركة فيها.
الأمر ذاته يطرح غرائبية التعددية نفسها وغرائبية آليات إنتاجها المستخدمة والتي باتت حسب تعبير الفيلسوفة الأمريكية “سوزان لانغر” محل استثمار العقول الحساسة، على ما فيها وما تُبين من إخفاقات مسيئة ونتائج تعيد للوراء بدل من أن تدفع لأمام، فلا يكون أمام السلطة بأجهزتها المختلفة والهشة في ذات الوقت إلا أن تبقى مضطرة لتسير لحظتها دون أي رؤية ودون أي نظرة لتوطين ذاتها كسلطة دولة في عمقها الاجتماعي، وعاجزة على بناء ذاتها بذاتها أحرى أن تبني المجتمع ككل، بل وعاجزة عن تناول القضايا المصيرية الكبرى، وتُلقي بها في دوامة الاستهلاك السياسي من أجل انتاج نُخب تتقاسم معهم هموم تسير لحظاتها الصعبة، مقابل ريادة غير مستحقة ومكانة مزورة، بل وترعى مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية على حساب قضايا الوطن المصرية.
والحديث عن السلطة في موريتانيا، يستوجب ربطها كبناء بمفهومي (الولادة القاصرة والهروب المعتمد) ذلك أن طبيعة ولادتها، إن حكمنا بمنطق أن لكل مجتمع سلطة توافق طبعه الاجتماعي، وهي مقولة أقرب للتحقق مما سواها في سياقنا وفي طبيعتنا الاجتماعية، فقد ولدت السلطة قاصرة في هذا الفضاء وعجزت عن تحقيق دولة وبقت فقط سلطةً يتداولها الأغنياء والأقوياء تنتهك جميع الوسائل وتستوردها من أجل أن تحسن صورتها كأفضل وسيلة للحكم دون أن يتحقق ذلك باعتراف جلي وغير جلي من رموزها وقادتها في مختلف مراحلها (المرحلة الشمولية، ثم مرحلة السلطة الإستثنائية، وصولا إلى مرحلة السلطة المُدمقرطة والتي نعيش حاليا جزءا من مراحلها).
أما كونها سلطة تنتهج الهروب عن المشاكل بدل من حلها، فيقع في قلب تلك المسألة عجزها عن حل مسألة الهوية أو مواجهتها بالموضوعية والمعارف الرصينة في مقابل فتحها الباب أمام متصدري الخطابات القبلية والشرائحية على حساب أي خطاب أو توجه وطني، بل والأعظم من ذلك إخضاعها المؤسسات التي كان يجب أن تكون بادرة تأسيس فعلي لسلطة الدولة حسب مقتضيات القانون ومتطلباته لرغبات مجموعات الضغط حسب مصالح الأحلاف القريبة منها كسلطة والمحايثة لها، لتبقى جدلية مشكل أو مشاكل التأسيس مطروحة حتى الآن بعد تخرج الآلاف من الشباب والنخب من الجامعات الخارجية، وبعد أن علم الجميع نواقص الإصلاح وفهم متطلباته، إلا أن مصالح الحاكمين للسلطة تعيق أي توجه لإصلاح السلطة وتأسيس دولة بالمفهوم الموضوعي.
وما ما نشاهده الآن من رغبات النُخب الكبيرة وإلحاحها على زيادة سن التقاعد على حساب مشاكل المئات الآلاف من الشباب المعطل والمحروم إلا بعض من مشاكل السلطة وتآكلها حسب مصالح الأفراد المكونين لها، أي أن منطق الإصلاح عندهم مربوط بمصالحهم هم ولو على حساب الجميع.
وأخيرا فإن موريتانيا تسعُ الجميع إذا فكرت نخبتها الحاكمة فقط بالمنطق الذي يسعى لتحقيق مصالح الجميع، وليس بالمنطق الذي يوغل في تحقيق مصالح نخبة أثبتت التجارب فشلها وتحجرها على نفسها وإقصائها أو تهميشها لكل نوايا الإصلاح
الدكتور باب ولد سيد أحمد لعلي / أكاديمي موريتاني