التنمية والتفاعل مع التراث
ما من شك اليوم، في ظرفنا و سياقات فعلنا التنموي بآفاقه الشاملة، أن الإنسان الموريتاني أصبح
يتلمس آثار السياسات الجادة لترقية أوجه حياته الوطنية، وخاصة فيما يتعلق بتراثه، الذي يمثل الركيزة الأساسية لهويته الثقافية وعنوان اعتزازه بذاتيتها الحضارية في تاريخها و حاضرها، أوهو بعبارة أخرى، ثمرة لتراكم خبرات أسلافه في تعاطيهم مع محيطهم الطبيعي على مر العصور، فجميع المبادرات و الخطط و البرامج التنموية التي تتخذ هذا الصرح موضوعا لها، تثير لدى ك ٍل منَّا، حزمة من الخواطر المفعمة بالإعظام و الإكبار لبناة وصناع هذا المخزون الحضاري الثري من ناحية، كما توقظ لدينا تطلعات متلهفة إلى ترقية هذا المخزون المادي
و اللامادي، و إضافة لبنات جديدة في مسيرتنا الحضارية، من ناحية أخرى.
فإذا كنَّا اليوم نقف حقيقة على َعتَ َبات ما يمكن أن نعتبره، نزوعا مت َبصرا إلى تشخيص مشاكلنا عموما، ثم
إعادة النظر في طرائق حلها بالصورة اللائقة و الناجعة، والتغلب على ما بات في ماضينا القريب يق َبع في سلة المهملات، فإن ما بدأنا تدشينه بالفعل في ميدان العناية بتراثنا الثقافي بأبعاده المختلفة يستدعي النظر برؤية نفَّاثَ ٍة إلى ما تختزنه ذاكرة مجتمعنا مما بثته حواضرنا التاريخية ( شنقيط ـ وادان ـ تيشيت ـ و ولاتة ) من إشعاع علمي و ثقافي مازالت بصماته تعلن عن نفسها في واقعنا المجتمعي الخاص، وواقع أمم أخرى تنَ َّورت به وو َّظفته في تجذير القيم الإسلامية السمحة المؤسسة على الصفاء السني و الاعتدال والوسطية، كما تجسدت في العصر النبوي
المحمدي الشريف الذي هو سيد العصور.
ولعل ما ينبغي أن يؤسس هذه الرؤية التي وصفناها بالنفاثة، هو تركيز كل فعل يهدف إلى ترقية التراث و تنمية هذه الحواضر و إعادة الإشراق لمحياها الشامخ في عمق الزمان، على الاستمرار في تجسيد هذه الإرادة الجادة في تدعيم و تثمين و صيانة هذا الصرح، بحيث نستجمع قوانا، نخبة و قادة رأي و رعاة شأن ثقافي من أجل بعث هذه المقدرات التراثية المطمورة، و إحيائها عبر جهود من التقمص السليم لها بروح معاصرة تجعلنا نفيد بها و نستفيد منها، بمعنى أن نجعلها حية و متجددة ترافق مسارنا الإصلاحي التنموي و الشروع فعلا في أعمال الترميم للمآثر التاريخية مع المحافظة على ما تكتنزه من فنون معمارية هندسية بالغة الروعة، و تكثيف أعمال الحفظ و التبويب و الفهرسة للآثار العلمية الخالدة، وإدخالها و تنظيمها في قواعد البيانات و تثبيت تلك القواعد على شبكات المعلومات الوطنية التي تعد ذات دور كبير في اختصار الطرق المؤدية للمعلومات العلمية
و اختصار الوقت و الجهد للمستغلين لهذه الكنوز الغالية
إن بعث وإحياء التراث الثقافي لا يتلخص في هذا فقط، بل يتجاوز ذلك أيضا إلى بذل مزيد من الجهود كذلك قصد توسيع دائرة حضور الجامعة الصحراوية المعروفة بالمحظرة التي ظلت عبر تاريخنا هي النموذج الفعال في الإنتاج المعرفي و عطائه، وبعثه وإحياء تراثنا الشعبي بوجهيه العربي و الإفريقي الذي هو المفصح باستمرار
عن التقاسيم العامة لهويتنا.
ذلك ما يدعونا إليه واقع إرثنا الحضاري من عمل بات من الضرورات الملحة، و هي في الحقيقة دعوة
ت َع ُّد من المنطلقات الواعدة في فضاء الجهود التنموية العامة لمختلف أوجه حياتنا المدنية، و ذلك انطلاقا من أن العناية بهذا الإرث الإنساني الحي في الذاكرة الجمعية لأمتنا، هي دليل بارز على إرساء سياسات جادة في مسارنا التنموي العام، لكن يجب أن يبقى هذا المنحى المحدد من الفعل التنموي العام، منطلَقا لا يغيب و لا يغَيَّب عن ساحة الورشة الكلية للتنمية، و أن يحاط ما يبدو من إرادة سياسية حقيقية للنهوض به، بالرعاية و التشجيع اللازمين و ترجمة ما ترمي إليه هذه الإرادة في الواقع الحقيقي لإرثنا الحضاري الذي هو عنوان ذاتنا بكل أبعادها.
آن لنا أن نعيش في تراثنا و نتفاعل معه و نطعمه من واقع العصر بروح حديثة و ضامنة في نفس الوقت
لصيانة ثوابتنا الإسلامية المجيدة، فلم تحقق الأمم والشعوب نهضتها خارج الوعي بضرورة هذا التفاعل مع المخزون التراثي الوطني وما خلفته أجيالنا السابقة من قيم حضارية مضيئة
و ليس هذا التفاعل المنشود مع ثراثنا تفاعلا ميكانيكيا جامدا بل ديناميكيا حيا يقوم بتبيئته و جعله معاصرا
لنا و معاصرا لنفسه في الآن ذاته، كما يقول قراء التراث .